{["سيئ", "ممل", "يحتاج المزيد من التفاصيل", "رائع"]}


منذ حوالي ١١ سنة من اليوم أنتجت هيئة الاذاعة البريطانية BBC فيلماً وثائقياً تحت اسم "سفينة نوح"*، حاول الفيلم البحث عن القصة الحقيقية لطوفان نوح والدلائل التاريخية والجيولوجية للقصة بعيداً عن الاعتماد الكامل على القصص الدينية المتوارثة المعروفة.

هذا ماحدث في عالم موازي إذن منذ حوالي ١١ سنة او أكثر من اليوم، الفيلم تم عرضه على قناة BBC الوثائقية واشترته عدة محطات أخرى للعرض على شاشاتها دون أدنى مشكلة، الغريب ان الفيلم في مجمله يقوم أصلاً على التشكيك في القصة اللاهوتية عن طوفان نوح، القصة التي وردت في التوراة ثم الانجيل ثم نسخت كما هي في القرآن أيضاً.

يطرح الفيلم العديد من التساؤلات العلمية عن القصة، تساؤلات تشكك في صحة هذه القصة الاسطورية، تساؤلات عن طبيعة الطوفان الذي أغرق الأرض ومتى حدث ولماذا لا يحدثنا التاريخ الجيولوجي للأرض عن مثل  هذا الطوفان.

كيف يمكن بناء قارب شديد الضخامة لحمل الاف الحيوانات بالامكانات البدائية المتاحة منذ مايزيد عن ٥٠٠٠ سنة ماضية، كيف يمكن أصلاً حمل اكثر من ٣٠ مليون نوع حي من الحيوانات والطيور والحشرات على مركب واحد أياً كان حجمه، سيحتاج الامر الى ٣٠ سنة على الأقل لحمل هذا التنوع الحيواني الهائل الموجود على الارض! تساؤلات بسيطة لكن يبدو ان الكتب المقدسة لم تهتم كثيراً للأرقام !

يشير الفيلم إلى أن كمية الماء في الارض في كل المحيطات والبحار والأنهار وعلى قمم الجبال الثلجية لا يمكن أن تؤدي إلى طوفان يغرق كل الكائنات الحية على الارض في وقت واحد، ولو أن الطوفان قد حدث عن طريق فيضان المياه كالبراكين من باطن الارض فيتسبب ذلك في موت كل البشر بفعل الغازات السامة وستسبب الرطوبة اختناقاً لجميع الاحياء على الارض !!

يذكر الانجيل اسم جبل هو  (ارادات) في تركيا على أنه الجبل الذي رست عليه السفينة، لكن عشرات الدراسات والابحاث حاولت الوصول الى دليل، اي دليل او مؤشر لسفينة او طوفان او اي اثر على هذا الجبل، و كانت النتائج دائماً لا شيء، القرآن يذكر جبل الجوديّ ولا توجد اي دلائل ايضا !

عام ١٩٣١ اكتشف احد العلماء (Leonard Woolley) حدوث فيضان نهري في العراق منذ حوالي ٥٠٠٠ سنة، وهو فيضان نهري اكبر من الاعتيادي لكنه لم يتعد مساحة العراق ولم يغرق العالم بالطبع! ويبدو ان القصص السومرية خلدت ذكرى الفيضان الكبير في آدابها فنجد قصة نوح مروية في الواح السومريين واساطيرهم من بين تفاصيل ملحمة جلجامش الرائعة ومع بعض المبالغات، ويرد فيها ذكر الطوفان بالظبط كما نقلته الديانات الابراهيمية فيما بعد!

ربما حدثت القصة إذن بشكل مختلف في العراق منذ حوالي ٥٠٠٠ عام في ظل الحضارة السومرية، بطل القصة هو ربما تاجر وزعيم احدى القرى يبني سفينة ليرسلها في تجارة له، ويتزامن ذلك مع وقت ارتفاع منسوب النهر الذي يتحول لفيضان، فلا يكون امامه هو ومن معه الا الصعود على ظهر المركب النهري الكبير الذي قام ببنائه، وبالفعل يحملهم المركب على ظهر المياه وينجو معظمهم من الغرق، وتسجل الاداب السومرية ذكرى الفيضان العظيم، القصة التي نقلها اليهود من العراق وتناقلتها الكتب المقدسة لاحقاً!

***

تتفق أو تختلف مع ما يطرحه الفيلم من خلال آراء العلماء والباحثين، تصفهم بالكفر ربما أو بأنهم ينتمون لمؤامرات صهيونية لهدم الإسلام، علماً ان القصة وردت أولا في التوراة وثانياً في الانجيل وأخيراً في القرآن! ليس المهم ما تعتقده بخصوص الفيلم الكافر الذي أنتجته الشبكة الفاسقة BBC، المهم أن الفيلم تم إنتاجه وعرضه ومناقشته ودراسة ما يطرحه، دون مظاهرات تحرق وتفجر وتندد "بالفيلم المسيء"، ولا بيانات تصدر من مؤسسات دينية منقرضة أصابها العفن والفساد كالأزهر، ولا محاولات للحجر على وجهة النظر التي يطرحها الفيلم مهما كانت.




الدراسات والكتب والمقالات والأفلام تبحث وتتسائل عن أكثر الموضوعات حساسية، عشرات الكتب تناولت قصة عيسى المسيح بالبحث والدراسة عن حقيقة وجوده تاريخياً! من دون أن يقوم مسيحيو العالم بالمظاهرات ومن دون أن يقوم الفاتيكان بإصدار بيانات حمقاء على شاكلة "تجسيد الأنبياء حرام". بالمناسبة الجملة الأخيرة هي خلاصة بيان الأزهر عن الفيلم السينمائي نوح الذي يتناول قصة "النبي نوح" كما وردت في الكتب المقدسة من دون تشكيك ولا بحث ولا أي شيء، وإنما مجرد تجسيد للقصة سينمائياً. لكن لأننا شعوب قاصرة فلابد للمشايخ من أن يمارسوا الوصاية على ما نرى وما لا يجوز أن نرى، فبينما جامعات العالم تنتج أول خلية حية مصنعة بالكامل، وأول قلب بشري مصنع بالكامل بتقنية النانو، تتخصص جامعة الأزهر في الوصاية على الكتب والأفلام، وتصدر البيانات حول فيلم نوح، وفي سياق موازي يقبع كرم صابر في السجن يواجه تهمة "ازدراء الأديان" بسبب رواية كتبها اعتبرتها المحكمة مسيئة للذات الإلهية، الذات الإلهية التي تحتاج أحكاماً قضائية لحمايتها !

على الذين يحاولون أن يمارسوا دور الوصاية على المجتمع أن يعلموا أننا نعيش عصر السماوات المفتوحة، عصر الانترنت الذي لا حدود له ولا مركز، عصر يتم فيه تداول كل أنواع الكتب والأفلام عبر الانترنت بالملايين يومياً، على هؤلاء الأوصياء أولاً أن يعملوا على تثقيف أنفسهم، وتنقية مصادر معلوماتهم، وغربلة كتب التراث التي يدرسونها لعقول الغلابة من المواطنين الذين لا يعلمون مافيها من سموم. مئات الأسئلة الفلسفية والوجودية بانتظارهم للإجابة عليهم، مئات التحديات الفكرية والعلمية عليهم أن يجتهدوا للإجابة عليها قبل أن يمارسوا دور الوصاية. وعلى الشعوب العربية أن تدرك أن من يرتدون العمائم ويجلسون على كراسي الإفتاء ليسوا علماء وإنما حفاظ، وأن العلم مفهوم مختلف تماماً عن الصم والحفظ والمنع والإفتاء.

العلم يطرح الأسئلة وهؤلاء يرتعدون منها، العلم يبحث عن الإجابات وهؤلاء يعتقدون بجهلهم أن لديهم كل الإجابات، العلم يخرج كل يوم بالجديد وهؤلاء يخرجون بصديد وقذارة ما في بطون الكتب من فتاوى النكاح والجماع والرضاع والحيض وزواج القاصرات وتعدد الزوجات ومعاشرة الجواري.

نحن في أمس الحاجة إلى أن ننبذ هؤلاء العالة الذين يتغذون على الجهل وقلة الحيلة وأن نفتح الأبواب للاختلاف والتساؤل والشك، علنا نخرج من حضيض الإجابات الجاهزة تحت عمامات ولحى رجال الدين منذ آلاف السنين.


------------
* رابط فيلم BBC الوثائقي "Noah's Arc"
http://www.youtube.com/watch?v=NZu3GXoKXU4